التنافس في أصله مقصد شريف، ومعنىً عالٍ، وسبيل إلى الترقي في الكمالات
جرت سنة الله في خلقه أن الإنسان بطبعه يحب التميز، والتفرد، ونيل المحامد. ولا غضاضة في ذلك، ولا مذمة على من كان كذلك.
بل إن التجرد من ذلك منقصة، ولا يَعْطُل من حب تلك الخصال إلا من نزل عن مدرجة الأسوياء. ولهذا كان التنافس بين البشر قائماً في شتى الميادين.
ولا يخلو زمان أو مكان من تلك المنافسة سواء في قاعات الدرس، أو صفقات البيع والشراء وسائر التجارات، أو في مجالات الرياسات، أو في ميادين الرياضة والفروسية وما جرى مجرى ذلك.
وهذا التنافس من أعظم أسباب التطور، والعبقرية، وشحذ القريحة، واستنفار الطاقات، واكتشاف الجديد.
ولو لم يكن هناك تنافس لما ارتقت الصناعات، والعلوم، ولجمد الناس على نظام في الحياة لا يتزحزحون عنه، ولا ينالون ما يأملون من رُفَهْنِيَةِ العيش، وحصول مزيدٍ من الراحة.
وهناك تنافس أعظم من ذلك، وأشرف، ألا وهو التنافس في ميادين الخير، والزلفى من الله _جل جلاله_ ولهذا جاءت الآيات حاثة على هذا المعنى، كمثل الأوامر المصدرة بـ : [سَابِقُوٓاْ] [وَسَارِعُوٓاْ] [فَٱسۡتَبِقُواْ] [وَفِي ذَٰلِكَ فَلۡيَتَنَافَسِ ٱلۡمُتَنَٰفِسُونَ].
والحاصل أن التنافس في أصله مقصد شريف، ومعنىً عالٍ، وسبيل إلى الترقي في الكمالات.
ولكن قد يعتري هذا التنافس ما يلوث وجهه، ويكسوه حِليةً تشينه. وذلك كأن لا يكون شريفاً؛ بحيث يخرج عن طوره؛ فتكون المنافسة ضرباً من التحايل، والتربص، والتشكيك، والطعن في المنافس، وتجريده من كل فضيلة.
لذا كان على العاقل أن ينافس، ويتقدم في الفضائل؛ فإن علا شأنه، وارتفع على أقرانه، فليلزم التواضع، ولينسب الفضل إلى ربه جل وعلا ثم إلى من كان سبباً في ذلك.
وإن فاقه قِرنه في منافسةٍ ما فليسلِّم له، وليعترف بفضله، وليكن أول المهنئين له؛ فذلك أنزه لنفسه، وأبرأ له من الأثرة، وأرفع له في نفوس أقرانه؛ فلئن فاته السبق إلى الفوز في أي ميدان لم يَفُتْه شرف النفس، وسلامة الصدر.
بل قد تفوق تلك الروح ما أدركه منافسه من المحامد. وذلك مما تنشرح له صدور الأكابر، ومَنْ يقدرون المكارم قدرها.
ولا يزال الناس يرون صوراً من تلك النماذج التي تُذْكر ما بين الفينة والأخرى؛ فتُضْفي على الحياة رونقاً وجمالا.
ومن الأمثلة على ذلك ما كان بين شيخين من أكابر شيوخ الأزهر، وهما شيخ الأزهر الباجوري، والشيخ مصطفى المبلط؛ حيث اشتدت المنافسة بينهما؛ لنيل مشيخة الأزهر؛ فكانت من نصيب الشيخ الباجوري؛ فلما آلت إليه المشيخة كان من الشيخ المبلط موقفاً عظيماً يعبر عن معنى التنافس الشريف أيما تعبير.
يقول الشيخ علي الطنطاوي مبيناً ذلك الموقف: نحن في صحن الجامع الأزهر في مصر، بعد المغرب، وكان شيخ الأزهر الرجل العظيم بعلمه، العظيم بمنصبه الشيخ الباجوري (المؤلف المشهور) وقد قعد على عادته كل عشية؛ وأقبل العلماء والطلبة يقبلون يده.
وكان الشيخ مصطفى المبلِّط أكبر منه سناً، وكان قد نازعه مشيخة الأزهر، وزاحمه عليها، ولم يدَّخر في سبيل الفوز بها جهداً؛ فلما صارت للباجوري صار يُعَظِّمه، ويراعي له حق منصبه، فلما أقبل الناس هذه العشية على الشيخ؛ لتقبيل يده اندس بينهم، وقبل يده معهم؛ فانتبه له الباجوري، وعرفه، فوثب قائماً وأمسك بيده وجعل يبكي ويقول: حتى أنت يا شيخ مصطفى؟ لا! لا!
فقال الشيخ مصطفى: نعم، حتى أنا؛ لقد خصَّك الله بفضل وَجَبَ أن نقرَّه، وصرت شيخنا؛ فعلينا أن نوقرك.
ونحن معاشر القراء إذا قرأنا مثل هذا النموذج الراقي تهتز في نفوسنا عاطفة احترام. وربما كان إعجابنا لمن سلم لِقِرْنِهِ، واعترف له بفضله يفوق من نال المنصب العالي. وما ذاك إلا لأن النفوس جبلت على محبة الإنصافِ، والاعترافِ للمحسن.
ولو أن الشيخ المبلط نال من منافسه الشيخ الباجوري - رحمهما الله - أو أنه في الأقل نأى عنه، ولم يظهر له ذلك الاحترام، والاعتراف لربما عُذِر، وقيل: هذا كلام أقران يطوى ولا يروى، أو لم يذكر بسوء إذا هو أعرض.
ولكن نفسه الشريفة، وعنصره الزاكي أبيا إلا أن يظهرا في ذلك الوقت الذي تتحرك فيه نوازع الغيرة، والحسد، والتنافس المحموم. ولكنه تسامى عن تلك النوازع، وأبان عن نفس كريمة، وساحة طاهرة؛ فكان أن خلد له التاريخ هذا الموقف الرائع.
والحاصل أن الحياة قصيرة من جهة؛ فلا ينبغي أن تُقَصَّر بمثل هذه الصغائر. وهي في الوقت نفسه واسعة؛ فلا ينبغي أن يُقْصَر الفضل، والمجد في زاوية ضيقة [وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغۡنِ ٱللَّهُ كُلّٗا مِّن سَعَتِهِ].
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق