«يود أهل العافية يوم القيامة حين يُعطَى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قُرِضَتْ في الدنيا بالمقاريض».
إن الابتلاء بالمرض سنةُ الله الجارية في خلقه، يبتلي الله به الناس عمومًا؛ المؤمن والكافر، الصالح والطالح، فما من إنسان في هذه الدنيا إلا ولا بد أن يواجهَ فيها مرضًا وعافيةً، وفرحًا وحزنًا، وسراءَ وضراءَ؛ قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 1، 2]، فكلُّنا أصحاب بلاء، فمنَّا من يبتليه بالنعم لينظر كيف يشكر، ومنا من يبتليه بالمرض والمصائب لينظر كيف يصبر، فكلنا أصحاب بلاء، والمؤمن الحقيقي هو الذي يشكـر الله في السراء، ويصبر في الضراء؛ قال صلى الله عليه وسلم: «عجبًا لأمر المؤمن؛ إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراءُ شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراءُ صبر، فكان خيرًا له»[1].
ولذلك فإن ربنا جل جلاله وعمَّ نَواله عندما يبتلي عبدَه بالمرض، يبعث إليه مَلَكَيْنِ، ينظران ماذا يفعل؟ وماذا يقول لعُوَّاده؟
ونحن قد رأينا الكثير من المرضى عندما يزوره زائر، ويسأله: كيف حالك؟ يقول: الحمد لله رب العالمين، الحمد لله على كل حال، الحمد لله أخذ مني شيئًا، وأعطاني أشياءَ، الحمد لله الذي لم يجعلني مثل فلان وفلان، وربما به أمراض الدنيا، وربما عجز الأطباء عن شفائه، وربما يتألم ألمًا شديدًا، لكن إذا جاءه الزوار وسألوه: كيف حالك؟ كيف مرضك؟ قال: الحمد لله، إنا لله وإنا إليه راجعون، هل تدري ما لهذا المريض الصابر المحتسب من الأجر والثواب عند الله تعالى؟ اسمع: ((إذا مرِضَ العبد، بعث الله تعالى إليه مَلَكَيْنِ، فقال: انظرا ماذا يقول لعُوَّاده؟ فإن هو إذا جاؤوه، حمِدَ الله وأثنى عليه، رفعا ذلك إلى الله عز وجل - وهو أعلم - فيقول: لعبدي عليَّ إن توفيته أن أدخله الجنة، وإن أنا شفيتُهُ أن أبدل له لحمًا خيرًا من لحمه، ودمًا خيرًا من دمه، وأن أكفِّرَ عنه سيئاته))[2]، فأول ما يصيبه المرض يقول: ((إنا للـه وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي، وأخْلِفْ لي خيرًا منها))، هل تدري ما للذي يصبر ويحتسب من الأجر والثواب؟ قال تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 156، 157].
قال ابن عباس رضي الله عنه عن هذه الآية: "أخبر الله أن المؤمن إذا سلَّم الأمر إلى الله، ورجع واسترجع عند المصيبة، كُتب له ثلاثُ خِصال من الخير: الصلاة من الله - وهي مغفرة الذنوب - والرحمة، وتحقيق سبيل الهدى"[3]، الله أكبر! أي فضل بعد صلوات الرب ورحمته وهداه؟
هذا سيدنا أبو هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة»[4].
أتَرَون الأشجار وقت الخريف كيف تتساقط أوراقها حتى تكون أغصانًا لا تبقى فيها ورقة واحدة؟ هذا هو حال المريض الصابر المحتسب، تتساقط ذنوبه ذنبًا بعد ذنب، حتى يخرج من مرضه وليس عليه خطيئة؛ قال صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم يصيبه أذًى من مرض، فما سواه، إلا حطَّ الله به سيئاته، كما تحطُّ الشجرة ورقها»[5].
أيها المريض الصابر المحتسب، أبْشِرْ؛ فإن أجرك عظيم عند الله تعالى، يأتي يوم القيامة أهل البلاء، أهل الأمراض، والأصحاء أهل العافية، يأتون فيقفون أمام الله تعالى للحساب، وإذا بربِّ العالمين يكرم أهل البلاء الكرم الكبير، والأجر العظيم، وأهل العافية ينظرون إلى كرم الله تعالى فيتمنَّون، أتدرون ماذا يتمنى أهل العافية في ذلك الموقف؟
اسمعوا إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وهو يحدثنا عن أمنية أهل العافية فيقول: «يود أهل العافية يوم القيامة حين يُعطَى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قُرِضَتْ في الدنيا بالمقاريض»[6].
أي ثواب، وأي كرم هذا الذي جعل أهل العافية يتمنَّون في ذلك الموقف لو أن جلودهم كانت قُرضت في الدنيا بالمقاريض؟!
فعلى المسلم أن يعلم أن المرض نوع من أنواع الابتلاء، والله تعالى إذا أحبَّ عبدًا ابتلاه، فربما يزداد عليك المرض، لماذا؟ لأن الله تعالى يحبك، لا كما يتصور البعض أن الله إذا ابتلاك، فمعنى ذلك أنك غير مستقيم، أو أنك ظلمت الناس وأكلت حقوقهم، لا؛ بل إذا أحب الله عبدًا ابتلاه؛ قال صلى الله عليه وسلم: «إذا أحب الله قومًا ابتلاهم، فمن صبر، فله الصبر، ومن جَزِعَ فله الجَزَعُ»[7].
وأحيانًا يبتليك؛ لأنه يريد أن يسمع صوتك وشكواك، ربما شغلتك الدنيا عن الدعاء، وعن الصلاة في المساجد، وتلاوة القرآن، فيبتليك لتكثر من دعائه وشكره وذكره؛ قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل يقول للملائكة: انطلقوا إلى عبدي، فصبُّوا عليه البلاء صبًّا، فيحمد الله، فيرجعون فيقولون: يا ربنا، صَبَبْنا عليه البلاء صبًّا كما أمرتنا، فيقول: ارجعوا؛ فإني أحب أن أسمع صوته»[8].
أو لعل لك عند الله تعالى منزلةً لا تبلغها بعملك، فما يزال الله تعالى يبتليك بحكمته بما تكره، ويُصبِّرك على ما ابتلاك به، حتى تبلغ تلك المنزلة؛ قال صلى الله عليه وسلم: «إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة لم يبلغها بعمله، ابتلاه الله في جسده أو في ماله أو في ولده»، قال أبو داود: زاد ابن نفيل: ((ثم صبَّره على ذلك))، ثم اتفقا: ((حتى يُبلِّغه المنزلة التي سبقت له من الله تعالى))[9].
فيا أخي المريض، لا تيأس، ولا تجزع، وكن صابرًا محتسبًا، وتذكر ما قاله أحد السلف: "لولا مصائب الدنيا، لوردنا القيامة مفاليس"[10]، لكن بصبرنا واحتسابنا على المصائب، يغفر الله لنا ذنوبنا.
ولا يتمنى أحدنا البلاء والأمراض، بل دائمًا اسألوا الله العفو والعافية، وإذا نزل البلاء، فعلينا أن نصبر ونحتسب، أسأل الله لنا ولكم العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم اشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، وعافِ مبتلانا ومبتلى المسلمين، وارحم موتانا وموتى المسلمين.
الخطبة الثانية
بعض الناس في مرضه يتحسر ويحزن، لكن على أي شيء يا تُرى؟
بعض الناس من يحزن في مرضه على بعض الملهيات، يتحسر على فلان الذي يسافر، وهو جالس، فلان الذي يجالس الأصدقاء في مجالس القيل والقال، وهو جالس في بيت، وبعضهم يتحسر على المعاصي والذنوب، فلان يفعل المنكرات وهو جالس في بيته، والبعض الآخر يتحسر في حال مرضه على الطاعات، يتحسر كنت لا أصلي الصلاة إلا في المساجد، وأنا اليوم لا أستطيع، كنت أقوم الليل وأصوم النهار، واليوم لا أستطيع، كنت أعمل الطاعات واليوم أنا طريح الفراش، فأنا أقول: هنيئًا لمن كان يتحسر في أيام مرضه على فعل الطاعات، أتدرون لماذا؟
اسمع ماذا يقول نبيكم صلى الله عليه وسلم: «إذا مرِض العبد، أو سافر، كُتب له مثلما كان يعمل مقيمًا صحيحًا» [11]؛ يعني: المسافر عندما يسافر لا يستطيع أن يعمل بعض الأعمال الصالحة كما في حال إقامته، وما منعه من القيام بها إلا السفر، فيكتبها الله له كأنه عملها، وكذلك المريض إذا كان يصلي في المسجد، ومنعه المرض ذلك، كتب الله له أجره كما كان صحيحًا، وإذا كان يقوم الليل فمنعه مرضه ذلك، كتب الله له أجره كما كان صحيحًا، كل طاعة كان يعمله قبل مرضه فمنعه المرض عنها، كتب الله له أجرها كما كان صحيحًا.
يعني: الحسنات تُسجَّل في سجلاتك وأنت نائم على فراشك، ويتعاظم الأجر بصبرك وحمدك واسترجاعك، فأي كرم بعد هذا الكرم، وأي فضل أوسع من فضل الله عز وجل؟
قال سفيان الثوري رحمه الله: "ليس بفقيه من لم يعد البلاء نعمةً، والرخاء مصيبةً"[12]، وذلك أن صاحب البلاء ينتظر الرخاء، وصاحب الرخاء ينتظر البلاء.
نسأل الله تعالى السلامة للجميع، وأن يرفع عنا وعن بلاد المسلمين هذا الوباء آمين، آمين.
[1] صحيح مسلم، كتاب الزهد والرقائق – باب: المؤمن أمره كله خيرٌ: (4/ 2295)، برقم (2999).
________________________________
د. محمد جمعة الحلبوسي
[2] أخرجه مالك في الموطأ، كتاب العين – باب: ما جاء في أجر المريض: (2/ 940)، برقم (5).
[3] جامع البيان للطبري: (3/ 223)، وشعب الإيمان للبيهقي، باب: في الصلوات - فضل المشي إلى المساجد: (7/ 117) برقم (2911).
[4] سنن الترمذي، أبواب الزهد – باب: ما جاء في الصبر على البلاء: (4/ 180)، برقم (2399)، قال الترمذي: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
[5] صحيح البخاري، كتاب المرضى – باب: أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأول، فالأول (7/ 150)، برقم (5648)، وصحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب – باب: ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض، أو حزن، أو نحو ذلك، حتى الشوكة يشاكها: (4/ 1991)، برقم (2571).
[6] سنن الترمذي، أبواب الزهد - باب: (4/ 181)، برقم (2402)، قال الترمذي: وهذا حديثٌ غريبٌ.
[7] سنن الترمذي، أبواب الزهد - باب: (4/ 181)، برقم (2402)، قال الترمذي: وهذا حديثٌ غريبٌ.
[8] أخرجه البيهقي في الشعب، باب: في الصبر على المصائب – فصل: في أي الناس أشد بلاء: (12/ 244)، برقم (9344).
[9] أخرجه أبو داود، كتاب الجنائز – باب: الأمراض المكفرة للذنوب: (3/ 150)، برقم (3092).
[10] رواه أحمد في مسنده: (39/ 48)، برقم (23641).
[11] صحيح البخاري، كتاب الجهاد – باب: يُكتب للمسافر مثلما كان يعمل في الإقامة: (4/ 70)، برقم (2996).
[12] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، لأبي نعيم الأصبهاني: (7/ 55).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق