وعاء الفضيلة هي قيم الرحمة، المحبة، الإيثار!
أقبل الشاب، في خطوات متقاربة، يدفعها قوة الشباب، ويسوقها الشهوة المحرمة، حتى وقف بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسول الله ائذن لي في الزنا!). لقد كان واضحًا في طلبه، فقد علم أن السبيل إلى الزنا وإن تعددت الطرق وتنوعت الوسائل فالمنتهى واحد! وإن تزينت بلباس التفتح ومواكبة العصر فالمقصود واحد!. هَمّ به الصحابةُ _ رضي الله عنهم _ غيرةً على حرمات الله وزجروه فقالوا: مه مه!. حينها عَلِم النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن الموقف يحتاج إلى توجيهٍ نبويٍ تحت مظلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر! فقال: «أدنه». فدنا حتى جلس بين يديه فقال له مُعلمًا ومنكرًا عليه: «أترضاه لأمك؟... لابنتك؟... لأختك؟...لعمتك؟... لخالتك»؟
وفي كل مرة يقول الشاب رضي الله عنه: لا والله، جعلني الله فداك.
والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقول له في كل مرة: «ولا الناس يرضونه لأمهاتهم.. لبناتهم.. لأخواتهم.. لعماتهم.. لخالتهم».
قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 41]، قال عثمان بن عفان - رضي الله عنه -: فينا نزلت هذه الآية.
لم يزل الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر وعاءً للفضيلة والخيرية بتزكية الله تعالى لهم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، ولم يزل أعداؤهم ومبغضوهم وعاءً للرذيلة والشهوة! فهم سُرّاق ليل في طريق الهداية، وخفافيش ظلام في مرتع الغواية.
الغيرة على محارم الله.. ليست دخيلةٌ على دين الإسلام، بل هي أصل من أصول الدين وفطرةٌ فطر الله عليها بني آدم قال - صلى الله عليه سلم-: «واللهِ ما من أحد أغير من الله» (رواه البخاري ومسلم)، ومن أجل هذه الغيرة شرع سبحانه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104].
وليست هذه الشعيرة بدعًا من القول! بل هي شرع من قبلنا من الأمم، قال تعالى مثنيًا على طائفة من أهل الكتاب: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ...} [آل عمران: 113، 114]
لقد حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على سقي هذه الفطرة في نفوس الصحابة - رضي الله عنهم - بالقول تارة وبالفعل أخرى، قال - عليه الصلاة والسلام -: «أتعجبون من غيرة سعد؟ فو الله لأنا أغيرُ منه والله أغيرُ مني، من أجل غيرة الله حَرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن» (رواه مسلم).
ولو قرأت في سِيرة الصحابة رضي الله عنهم لرأيت ظلال الفطرة بعد سقي النبوة وارفة! ودونك نموذجًا واحدًا يجسد لك حقيقة التأثر بالمدرسة النبوية.
عمرُ بن الخطاب - رضي الله عنه - لم يشغله ما هو فيه من معالجة سكرات الموت من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، دخل عليه شاب يثني عليه ويودعه قبل فراق الأحبة - الراعي والرعية - فلما تولى الشاب، رأى عمرُ في إزاره شيء من الإسبال، فقال: ردوا عليَّ الشاب. فلما رجع إليه قال له في كلماتٍ تنم عن رحمة الشاب قبل توجيهه لطاعة الرحمن فقال: «ارفع إزارك فإنه أنقى لثوبك وأتقى لربك» هيهٍ يا ابن الخطاب لقد أتعبت الأئمة من بعدك!.
هذه مُسلّمات قد آمن بها أعداء الدين ومحبي الفساد! ولكن الأمر كما قال سبحانه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14]، فكم عثر بهم حجرُ الغيرة في طريق الشهوة! وكم أُلقموا في ثغورهم ما يسد فتحته! وكم ألّبوا الناس وسخّروا الإعلام في سبيل إخراج المرأة فارتطموا في جدار الحسبة!
ولو نظرت في حال من يعادي أهل الحسبة لرأيت العوراء البيّن عورها، والمريضة البيّن مرضها، والعرجاء البيّن ظلعها، والكسيرة التي لا تنقي!.
قال قتادة وغيره: (إن الله لم يأمر العباد بما أمرهم به لحاجته إليه! ولا نهاهم عما نهاهم عنه بخلًا به! بل أمرهم بما فيه صلاحهم ونهاهم عما فيه فسادهم).
والله تعالى أعلم.. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق