الاستمساك بالوحي ضمانة لنقاء فكر المسلم، وصحة تصوراته تجاه الدين والحياة والكون والعلاقات بين مكونات الوجود، وضمانة لصحة الموازين، ودقة المعايير، وإصابة التقييم والحكم على الآراء والأفكار والأفراد والجماعات.
أتى عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه النبيَّ ﷺ بكتاب أصابه من بعض أهل الكتب فقرأه النبي ﷺ، فغضب، فقال: أمتهوكون(1) فيها يا بن الخطاب؟! (2) هكذا كان موقفه ﷺ من وحي منسوخ، قد يكون بقي فيه أَثَرَةٌ من نبوة، فكيف بتخرصات وأهواء وفلسفات البشر؟!
ليس هذا الموقف النبوي انكفاءً على الذات، أو سدًا لأبواب الحكمة، كلَّا! لكنَّه فقه منهجي عميق بخطر البعد عن الوحي النقي، والبعد عن الانطلاق منه في بناء الأفكار والتصورات والسلوك والمشاعر، وخطر التلقي من مصادر تشوهها، إنه امتثال نبوي لأمر الله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىٰ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: ٥١]. وهذا الاكتفاء بالوحي -مصدرًا للتصور والعمل- وصفه النبي الكريم ﷺ بالاستغناء -في أحد معنيي الحديث-: “ليس منا من لم يتغنَّ بالقرآن” (3) . كان سفيان بن عيينة يقول: معناه من لم يستغنِ به (4).
وعبَّر عن هذا الموقف المنهجي كتابُ ربنا تبارك وتعالى بـ (الاستمساك)، وجعله مُوصِلًا لصراط الله تعالى، يقول الحق تبارك وتعالى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الزخرف: ٤٣] ، أي: استمسك بما أنت عليه من الوحي، وخذ به؛ فإنه هو الحق الهادي إلى صراط مستقيم، الذي أمرنا الحق تبارك وتعالى بسؤاله مرات كل يوم، وأقرب من هذا -في ارتباط القرآن بالصراط المستقيم- تفسير غير واحد من أئمة هذا الدين بأن الصراط المستقيم، هو: القرآن، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “الصراط المستقيم: كتاب الله تعالى ذكره” .(5)
الاستمساك بالوحي ضمانة لنقاء فكر المسلم، وصحة تصوراته تجاه الدين والحياة والكون والعلاقات بين مكونات الوجود، وضمانة لصحة الموازين، ودقة المعايير، وإصابة التقييم والحكم على الآراء والأفكار والأفراد والجماعات.
وما أحدث الناس من ضلال أو فساد في العلم أو العمل إلا وهو بقدر بعدهم عن الوحي علمًا أو عملاً {أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُم} [محمد: ١٤]؛ فما ثمَّ إلا فريقان: مهتدون بأنوار الوحي، أو متبعون للأهواء. ويقول سبحانه:{وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ}[المائدة: ٤٩]؛ يُحَذِّرُه أن يفتنوه عن (بعضه) الذي يصدق على آية منه، وما هنالك إلا الأهواء!
إنَّ هذا الأمر لنبي الله ﷺ بالاستمساك بالوحي، يعني شِدَّة التمسك به والصدور عنه، والثبات عليه “لأن الأمر بفعل لمن هو متلبس به لا يكون لطلب الفعل؛ بل لمعنى آخر، وهو: هنا طلب الثبات على التمسك بما أوحي إليه؛ كما دلَّ عليه قوله:{إِنَّكَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} ”(6).
من اللحظة الأولى التي نزل فيها القرآن أدرك الرسولُ الكريم ﷺ أن علاقته مع هذا الكتاب علاقة تُحمُّلٍ لتكاليفَ وأعباءٍ وجهودٍ ستُبذل، فقد كان من أوائل ما نزل عليه ﷺ: «إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا» [المزمل: ٥]، قال قتادة: ثقيلٌ -والله- فرائضُه وحدودُه (7).
فلم يكن مقصود نزول الوحي أن يُحعل ترانيم يُترنم بها، بل ذمَّ الله بعض أهل الكتاب أنَّهم اتخذوا كتبهم كذلك، ولم تتجاوز علاقتهم بها تلك القراءة التي يقرأونها: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة: ٧٨] أي: إلا تلاوة يتلونها، ذكره الفراء(8). كما ذمَّ نبيُ الله ﷺ طائفةً تنبت في الإسلام بقوله: «يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم» (9).
وامتدح اللهُ أقوامًا كانت علاقتهم بكتاب ربهم علاقة اتباع، يستمعون القول فيتبعونه حقَّ اتباعه، قال سبحانه:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [البقرة: ١٢١]، أي: يتبعونه حق اتباعه -من: تلا الشيء إذا تبعه-، قاله: ابن عباس ومجاهد وجمهور المفسرين(10).
وانظر كيف وصف هؤلاء المتبعين بأنهم هم أهل الإيمان به على الحقيقة {أُولَٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} قال ابن عاشور ¬: “فلا شك أن تلاوتهم الكتاب حق تلاوته تثبت لهم أوحديتهم بالإيمان بذلك الكتاب لأن إيمان غيرهم به كالعدم” (11) .
وألفاظ القرآن عن القرآن مشعرة لكل متلقٍ له بتلك العلاقة النموذجية، علاقة الرسالة التي تتضمن تكاليف يجب أن تحمل، وأعمال يجب أن تؤدى..
اقرأ مثلا: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} [القصص: ٨٥] تجده لفظا يصف ما نتحدث عنه، {فَرَضَ عَلَيْكَ} إنها أوامر يجب أن تمتثل، قال عطاء: فُرِض عليه العمل بالقرآن(12). وقد كان كذلك ﷺ؛ فكان خلقه القرآن.
واقرأ أيضًا: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: ١٨] يعني: إذا بيناه وأنزلناه عليك، فاعمل بما فيه، قاله ابن عباس واختاره الطبري(13). وهكذا فهم الصحابة رضي الله عنهم تلك العلاقة المثلى بكتاب ربهم، فكانوا: لا يجاوزون عشرَ آيات حتى يتعلموا ما فيهن من العلم والعمل(14).
وصور العمل بالقرآن والاستمساك بالوحي، ليست مقتصرة على الأثر السلوكي الظاهر على جوارحنا فحسب -مع عظمه-؛ بل العمل بالقرآن أن يتأثر به سلوكك وقلبك ومشاعرك وتصوراتك وأفكارك.. أن تدور مع القرآن حيث دار في ذلك كله.
فإذا قرأت قول الحق تبارك وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [الروم: ٢٥]، استشعرت أن كل ما في السماء والأرض مفتقرٌ إليه، قائم بقيام الله عليه، ومَكَّنْتَ هذا الشعور في داخلك، لم يلتفت قلبك؛ فضلًا عن أن تنزل حاجاتك عند غيره!
وإذا قرأت قوله تعالى: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: ٦] ، وقوله: {وَكَأَيِّن مِّن دَابَّةٍ لَّا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} [العنكبوت: ٦٠]، وصوَّرتَ في ذهنك تلك المخلوقات التي يُعجزك عَدُّها، ومنها دواب {لَّا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} لا تستطيع الادخار، وتعجز أن ترفع طعامَ غدِها من يومها كيف تُرزق؟! = تيقنت برزق الحق سبحانه، ولم تقلق إذ الناس يضطربون ويقلقون!
وإذا قرأت قوله -في سورة النحل، سورة النعم-:{وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: ٥٣]، نظرت كم أحاطك بالنعم، مما سألت ولم تسأل، فامتلأ قلبك محبة له، وقربًا منه، وشهودًا لتقصيرك في مقامات الشكر والحمد، وامتثالًا لأوامره، وطلبًا للمزيد منه لا من غيره.
صروحُ إجلال لله تعالى ستُبنى في قلب المؤمن وهو يَرِد إلى القرآن ويصدر عنه، ويتدبر تلك الصورة المفترضة: زوال السماء والأرض لولا إمساك الله لهما عن الزوال: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا ۚ وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ ۚ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر: ٤١] ، أو يتدبر وصفه سبحانه لنفسه بانفراده بالإطعام وغيره مُطعَم: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} [الأنعام: ١٤]، وقوله عن ألوهيته لأهل السماء والأرض، وملكه لهم: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَٰهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَٰهٌ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٨٤) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٥)} [الزخرف: ٨٤ – ٨٥]، وقوله عن غناه الذاتي وفقر العباد الذاتي: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: ١٥]. وقوله: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ} [الحجر:٢١] طَوِّف خيالك في كل شيء فإن خزائنه في ملك الله وتحت تصرفه.
أيليق بمتحقق برسالات القرآن مستمسكٌ بها أن تمرَّ الآياتُ الـمُعَرِّفةُ بالله سبحانه، وبسننه وأيامه، وجلاله وكبريائه؛ فيقف من وعده ووعيده موقفَ الغافل عن خطرها، المستهين بما فيها؟ كيف تقرأ توعده {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (٥)} [الماعون: ٤ – ٥] ، ولا تزال تتخلف!
يمر عليك في القرآن مرات وكرات تاريخ الأمم والملأ وإهلاك الله للظالمين وتقرأ وعده الحق وسنته في عباده المتقين{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: ٥١] وقوله (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم: ٤٧] ثم تظن الظنون!
بالله عليك! كيف سيكون شعور مسلم -مستمسك بالوحي- يردد صباح مساء آية تذكره بوظيفته الأولى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: ٥]؟! أتُراه ينفك عن استشعار حقيقة وجوده الكبرى: العبودية؟! أم تُراه يعتد بحوله وقوته طرفة عين؟!
أفيطول أمله، أو يضيع وقته، أو تغيب عنه محدودية الحياة، وحقيقتها، وسنة الابتلاء فيها، وأن الله ما جعلها دارًا للجزاء = وهو يقرأ: {إِنَّمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر: ٣٩]، وقوله: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: ٢٠]، وقوله: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: ٧].
وهل سيبقى ظلام القنوط الذي ينسج خيوطه الشيطان الرجيم؛ ليُيئّس عبادَ الرحمن الرحيم، وهو يقرأ {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: ٥٣]، أو قوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: ١٥٦] ؟! وهل أنت إلا شيء؟!
أم أن داء العصر الذي تملَّك قلوب كثيرين، وانبهروا بالحضارة المعاصرة بكل منجزاتها المادية سيبقى وهو يقرأ:{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: ٧]. أو سيضطرب موقفه منها وهو يرتل: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} [الأنفال: ٦٠]؟!
إن العض بالنواجذ على الوحي، والاستمساك به عمليةُ (مَعْيَرة) مستمرة لعقل المسلم وشعوره وفكره وسلوكه. خذها نبوية: “تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به :كتاب الله”(15).
اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا…
[1] قال ابن الأثير: المتهوك: الذي يقع في كل أمر. وقيل: هو التحير. [النهاية في غريب الحديث والأثر (5/ 282)].
[2] مسند الإمام أحمد بن حنبل: مسند جابر بن عبد الله رضى الله تعالى عنه، 3/387، ح(15195)
[3] صحيح البخاري ح(7089).
[4] غريب الحديث للقاسم بن سلام (2/ 169).
[5] جامع البيان عن تأويل آي القرآن -ت: شاكر- (1/173).
[6] ابن عاشور: التحرير والتنوير (25/ 219)
[7] جامع البيان عن تأويل آي القرآن (23/ 681)
[8] انظر: معاني القرآن للفراء (1/49)
[9] صحيح البخاري ح(3414).
[10] جامع البيان عن تأويل آي القرآن (2/566).
[11] التحرير والتنوير (1/ 697).
[12] انظر: زاد المسير لابن الجوزي (3/396)
[13] انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن (24/70).
[14] مسند الإمام أحمد: 5/410، ح(23529).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق